في أجواء شديدة الحرارة كتلك التي تعيشها مصر الآن وتحت شمس سيناء استشهد الجندي المصري فوزي محمد عبدالمولى، قبل 57 عامًا، تحديدًا في عام 1967، لا أحد يعلم إن كانت الوفاة بسبب طلقة في الرأس، كما حدث مع مئات غيره أم إنه دفن حيًا كما جرى أيضًا مع كثيرين مثله من الجنود المصريين خلال نكسة 67، لكن الأكيد أنه لم يحرق حيًا، فملابس الشهيد المصري بحالتها، ومتعلقاته ظلت محفوظة بحالة جيدة جدًا في جيب جثمان ظل تحت رمال الأرض التي دافع عنها قرابة الستة عقود.
ربما تلك هي المعجزة بشأن الشهيد المصري الذي عّثر عليه بعمق 15 سم فقط لم تنهشه كلاب، ولم يؤذه مطر ولا مسّه شيء حتى خرج أخيرًا إلى النور يبحث عن عائلته التي لطالما بحثت عنه، هؤلاء الذين احتفظ بصورهم وأسمائهم قرب قلبه حين توقف عن النبض بيد الصهاينة، لكن رحلته الجديدة صوب مسقط رأسه، بدت صعبة جدًا، حيث انتقل عقب تلك السنوات إلى مواجهة مختلفة، هذه المرة مع الأوراق والروتين الرسمي الذي يحول بين لقاء الشهيد وذويه الذين لا يزالون يبكونه كأنه استشهد بالأمس!
قالت مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان، إن فريقًا من المؤسسة عثر مطلع يوليو 2024 على رفات الجندي المصري فوزي محمد عبدالمولى وأوراقه الرسمية وبعضًا من متعلقاته في منطقة نائية بالقرب من مدينة الحسنة، بوسط سيناء، ونشرت المؤسسة في تقرير عبر موقعها الرسمي، أن الجندي استشهد في أحداث حرب 1967، مرجحة أن يكون هذا قد حدث خلال الانسحاب العشوائي للجنود المصريين في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على سيناء في الخامس من يونيو 1967.
وقامت المؤسسة بنشر كل التفاصيل والصورة المتعلقة بالجندي الشهيد، ومتعلقاته، أملًا في العثور على عائلته التي عثرت عليه بالفعل، وتواصلت مع المؤسسة، لكن القصة التي بدا أن نهايتها تحمل بعضًا من السعادة، لم يبدُ أنها قد انتهت بعد، إذ بدأت رحلة أخرى مع الروتين الرسمي الذي لا يزال يحول، حتى لحظة كتابة هذا التقرير، بين الشهيد ولقائه عائلته.
لم تكن حياة فوزي سهلة إذ كان الشقيق الأصغر الذي جاء إلى الحياة عقب ثلاثة إخوة، أكبرهم محمود ومن بعده حياة ثم عبدالمولى ثم فوزي الذي ولد بمنزل العائلة في منطقة وادي القمر- وهو حي سكني ضخم يقع غرب محافظة الإسكندرية- يوم 18 يناير عام 1945.
لم يكد فوزي يبلغ السابعة من عمره حتى توفي والده عام 1952 وصار يتيمًا، لتتزوج والدته لاحقًا، يقول شقيقه الأكبر عبدالمولى: «كانت والدتي سيدة بسيطة من سيدات الزمن الماضي، لا تستطيع الخروج من البيت وحدها، أو حتى ارتياد المواصلات من دون مساعدة شخص مسئول عنها بصحبتها، حين توفي والدي كان شقيقي الكبير يعمل، وشقيقتي تزوجت، أما أنا و فوزي فكنا أصغر الأبناء». هكذا تربى فوزي في كنف والدته، ولكن بعناية خاصة من شقيقته حياة، ربما لهذا كان يحبها بشدة، محبة لا تزال تذكرها حتى الآن.
في مصنع الإسمنت القريب، واصل الأشقاء الثلاثة العمل، في سن صغيرة، كتبَاعَين على سيارات الشركة، يصفه أشقاؤه بـ«الحبّوب»، وصف يتوافق مع كم الصور الشخصية التي عُثر عليها في جيب سترته، للأقارب والأصدقاء، الذين كان يأنس بهم وحده لسنوات طويلة، إذ لم يكد الطفل اليتيم يبلغ الـ18 عامًا، حتى صادفت فترة خدمته بالجيش بداية الحملة المصرية إلى اليمن، فسافر ضمن 40 ألف جندي مصري، بحسب تقدير الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وقتها، ليعود عام 67.
سنوات من الحرب في بلد غريب، نجا خلالها فوزي من الموت، فلم يرتقِ شهيدًا ضمن 15 ألف شهيد مصري في حرب اليمن، لم تصدق الأسرة عينها، حين وجدوه وقد عاد أخيرًا، ليقضي إجازة بلغ عدد أيامها 21 يومًا، تضمنت الكثير من الأحداث المبهجة.
ربما لم يعلم المجند المصري في حياته القصيرة أن منطقته التي تحمل اسم وادي القمر سميت بهذا الاسم لوجود الملاحات التي كان ضوء القمر ينعكس عليها فكانت تلمع باللون الأبيض في الأرجاء، لكنه بالتأكيد رأى القمر، ورأى في ضوئه وجوهًا تحبه ويحبها، في الـ21 يومًا الأخيرة التي قضاها قبل سفره إلى سيناء.
كان حالة من الاستغراب تسود بشأن مشاعر الحب التي يحملها فوزي لجارتهم عايدة، الفتاة التي تكبره بـ20 عامًا تقريبًا بحسب شقيقه عبدالمولى الذي لا يزال يبدي تعجبه حتى الآن من اختيار شقيقه، فيما تذكر حياة تردده في طلب يد عايدة وكيف أنها شجعته وقالت له: «إنها فتاة طيبة وتحبك»، فقام بعقد قرانه عليها قبل سفره إلى اليمن.
حين عاد من اليمن، لم ينسَ رغم كل شيء، جلب هدايا معه إلى شقيقته حياة، تقول: «أنا كنت أمه الثانية، جابلي وهو جاي شبشب ومعالق معدن»، هدايا تبدو بسيطة لكنها كانت للجندي المصري ذات شأن، ربما لهذا أصرت حياة على أن يحتفظ بها لعروسه عايدة التي تنتظره منذ وقت طويل، وتواصل الانتظار، لكنه رفض مؤكدًا: «محدش ياخد الهدايا دي غيرك إنتي».
يحكي عبدالمولى كيف قضى شقيقه الأيام الـ21 الأخيرة في خروجات عديدة، كأي شاب في إجازة من الجيش، وكيف أنه ذهب إلى السينما، لكنه لا يذكر أي فيلم شاهد، كان واحد من قائمة الأفلام التي قدمتها السينما المصرية في ذلك العام وهي «أخطر رجل في العالم- شباب مجنون جدًا- إضراب الشحاتين- الخروج من الجنة- الراجل ده حيجنني- الزوجة الثانية- السمان والخريف- المخربون- شاطئ المرح- شقة الطلبة- غرام في الكرنك- قصر الشوق- كرامة زوجتي- معبودة الجماهير».
وتضمنت أيضًا لقاء حبيبته عايدة التي كان ينتظر إنهاء خدمته لإتمام إجراءات الزواج منها، حالمًا بفرح جميل يجمع العائلة، قبل أن يسافر ليختفي تمامًا، وتختفي أخباره، لأربع سنوات، إذ صار بحسب السجلات مفقودًا قبل أنه تعلنه الدولة شهيدًا ولكن من دون جثمان لتسترده العائلة.
ظلت عايدة، في انتظاره طوال سنوات اختفائه، ثم واصلت البقاء من دون زواج لفترة عقب إعلان استشهاده، يقول شقيقه عبد المولى: «كنت أقضي خدمتي العسكرية، وفجأة أخبروني أنني سوف أخرج معافاة عام 1971، بعدما قضيت عامين وستة أشهر، وذلك حين أصدر الرئيس الراحل محمد أنور السادات قرارًا بإعفاء من استشهد أحد أشقائه من الخدمة العسكرية، وبعدها ذهبنا إلى المحكمة، أنا وأشقائي وأمي، وزوجته عايدة، فمنحونا تعويضًا، كل منا نحو 85 جنيهًا، وبقيت عايدة زوجته، تقبض معاشه لفترة طويلة».
تؤمن شقيقته حياة على حديثه مؤكدة: «رغم أن سنها كانت كبرت، لكن رفضت تتجوز لوقت طويل، بعد انتظاره وإعلان استشهاده، لكن في النهاية اتجوزت وأصبح عندها ولاد رجالة دلوقتي».
لا تزال حياة تبكيه بحرقة كأنما رحل لتوه، وقد ساءت أحوالها النفسية كثيرًا عقب أنباء ظهوره من جديد، بعد كل تلك السنوات، حين أخبرها أبناء شقيقها الأكبر الراحل محمود، الصعوبات التي تواجه عودته، تقول: «كان حنونًا جدًا، عليّ وعلى أولادي، حين أحتاج لشيء أنادي يا فوزي، فيجيبني ويلبي ما أريد، وإذا سافر يتذكرني حين يعود، كان أبًا وأخًا، يريح قلبي، وإن طلبت أي شيء، يجيبني بـماشي وحاضر، ليس لدي صور له، سوى واحدة فقط قبل التحاقه بالجيش، بصحبة صديق له، لم يكن لديه وقت كاف لالتقاط الصور للأسف».
لا تكاد السيدة التسعينية تتحدث عنه، حتى تغلبها دموعها، وتعود تردد الجملة ذاتها من جديد: «أتمنى أن يعود لي، أن يدفن وسط أهله، مع أبوي وإلى جوار أشقائه وأمه، يكفي أنه بقي كل تلك السنوات وحده هناك».
تؤمن نوال إسماعيل ابنة حياة محمد عبد المولى، على حالتها النفسية المتردية: «منذ سمعت خبر ظهوره، وهي منهارة، تقول إنها تريد أن تراه وأن يعود، لكننا للأسف غير قادرين على أن سترده».
لا يزال شقيقه التسعيني عبدالمولى يذكر تلك الفترة من عام 1976، يقول: «كان في اليمن على سلاح المدفعية الثقيلة، عاد وقضى معنا الـ21 يومًا الأخيرة ثم اختفى، انتهت الحرب ولم يعد، لكننا لم نفقد الأمل، بحثنا عنه لوقت طويل، وأخبرونا أنه مفقود، وبقينا في انتظاره، لكن هذا استغرق وقتًا كبيرًا، ظللت خلال هذا الوقت، أبحث في السجلات العسكرية، وأسأل عن مصيره، لكنني لم أصل إلى نتيجة حتى تم إعلان كل المفقودين شهداء عام 1971، هكذا استوفيت الأوراق المطلوبة وحصلت على خطاب استشهاده، واستغرقني إنهاء الأوراق 28 يومًا تقريبًا ذهابًا وإيابًا حتى حصلت على خطاب الإعفاء ورحلت».
يتذكر عبدالمولى شقيقه فوزي، يصفه بـ«الصموت الباسم» ويقول: «لم يكن يتحدث كثيرًا، لكنه كان يحب المزاح، ويحب مقابلة أحبابه وأهله، أنا وأخي وأولاد عمي وبقية الأصدقاء».
تتعامل أسرة فوزي مع ظهوره باعتباره معجزة، يصفون ما جرى بأنها محاولة منه للعثور عليهم، لكن شقيقه الذكر الوحيد الباقي لا يزال يحمل صوته غصة وهو يقول: «ظهور شقيقي بعد كل هذه السنوات، أمر أقرب إلى الخيال، ليتني كنت أتمتع بالصحة كي أذهب خلف التصاريح، وأنهي الأوراق، لكنني رجل طاعن في السن، أقصى مكان يمكنني أن أصل إليه هو دورة المياه».
كان فوزي يحلم دومًا بالعودة، وقد أخبر شقيقه عبدالمولى بنيته: «قال لي، حين أعود من الخدمة، سوف أحصل على رخصة، وأعمل سائقًا في شركة الإسمنت القريبة، وأتزوج وأستقر»، هي الوظيفة ذاتها التي عمل بها عبدالمولى الذي يهتز صوته حين يقول: «نأمل أن يعود فوزي ويدفن في مقابر الدخيلة، إلى جوار أبي، وشقيقي وعمي، وأولاد عمي، من عائلة أبو الشوك في مقابرنا في الدخيلة».
لم يكن فراق الحياة بعمر الـ22 ودفنه وحيدًا، المأساة الأخيرة في حياة الشهيد فوزي، فلا يزال يعاني في العودة إلى عائلته، رغم المحاولات، بحسب الموقع الرسمي لمؤسسة سيناء، فقد قامت المؤسسة بإرسال فاكس إلى وزارة الدفاع لإخطارهم بموقع رفات الجندي الذي يحمل الرقم التسلسلي: 360116، من أجله تسليم متعلقاته، إلا أن الفاكس ظل بلا رد بحسب التقرير المنشور بالموقع.
ولا يزال ابن شقيقه الأكبر الراحل محمود، القاطن بمحافظة الإسكندرية يمضي في محاولة للعثور على طريقة لاستعادة رفاة عمه، يقول عن رحلة بحثه: «سألت فردًا من الشرطة العسكرية في منطقة سموحة كيف أتحرك، فأخبرني أن أتوجه إلى المنطقة الشمالية العسكرية في منطقة سيدي جابر بالإسكندرية، ذهبت إلى هناك قالوا لي اذهب إلى الأمانة العامة، ذهبت، قالوا لي اذهب إلى المحاربين القدماء في مدينة نصر قالوا لي، اذهب إلى إدارة تكريم الشهداء في رابعة العدوية، ذهبت إلى هناك، قالوا ليس اختصاصنا ارجع إلى الأمانة العامة مرة أخرى، عدت فقالوا لي ليس اختصاصنا، لا أحد يدلني على شيء».
ويضيف: «كل ما أريد معرفته إلى أين يجب أن أتوجه كي أستعيد رفاة عمي»، وواصل بضيق شديد: «إنني أعمل بالإسكندرية، والنزول المتكرر مع عدم وجود وجهة أمر مرهق جدًا، أرغب في معرفة إلى أين يجب أن أتوجه، لم أصل إلى شيء منذ ظهر وحتى الآن».
يعد المفقودون وعائلاتهم من بين الفئات المحمية بموجب القانون الإنساني الدولي، وأيضًا بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، التي تنص في المادة 26 منها أنه على كل طرف من أطراف النزاع أن یسھل أعمال البحث التي یقوم بھا أفراد العائلات المشتتة بسبب الحرب من أجل تجدید الاتصال بینھم، وإذا أمكن جمع شملھم، وعلیه أن یسھل بصورة خاصة عمل الھیئات المكرسة لھذه المھمة، شریطة أن یكون قد اعتمدھا وأن تراعي التدابیر الأمنیة التي اتخذھا.
من جانبه يقول المحامي الحقوقي مالك عدلي، إنه من حق الأسرة أن تتقدم إلى القوات المسلحة بطلب لاسترداد رفاة الشهيد، بخاصة وأن الشهداء العسكريين، عادة ما يتم تكفينهم، وغسلهم، وتسليمهم إلى أسرهم، إلا إذا فقدوا في أثناء المعارك، أما في حالة العثور عليهم، إن كان هناك شك في هويته يتم إجراء تحليل دي إن إيه للرفاة وأحد أقاربه، ولكن في حالة وجود الرقم العسكري، يعد هذا إثباتًا رسميًا لهوية الجندي، وعليه يتم تسليمه.
يقضي القانون الدولي الإنساني بأنه على أطراف النزاع البحث عن جثث الموتى وجمعها، وإجلاؤها وتسجيل جميع البيانات المتاحة قبل تدبير أمر الجثث بهدف تحديد هوية أصحابها، ويقضي كذلك بوجوب التعامل مع رفات مَن ماتوا في أثناء النزاعات المسلحة بطريقة ملائمة وصون كرامتهم. ويجب أن تسعى أطراف النزاع المسلح إلى تسهيل إعادة الرفات البشرية إلى العائلات عند الطلب، كما يضم القانون الدولي الإنساني التزامات تتعلق بالتحقيق في جرائم الحرب ومقاضاة مرتكبيها، ومنها تلك التي أسفرت عن فُقدان أشخاص أو اختفائهم قسريًا.
أما أحمد حافظ، المحامي بالقضايا العسكرية، فقد أشار إلى أنه في هذه الحالة يكون على العائلة أن تتقدم بشكوى إما إلى النيابة العسكرية، أو إلى الأمانة العامة لوزارة الدفاع، لالتماس إعادة رفاة الجندي الذي عثر عليه، وأنهم يريدون استرداده ليتم دفنه بالقبر الخاص بعائلته، وفي هذه الحالة سيتم التعامل مع الشكوى التي لن تستغرق وقتًا طويلًا، وبحسب الإجراءات المتبعة في هذه الحالة، فسوف تقوم القوات المسلحة بالتنسيق معهم لاسترداد الرفات من نقطة معينة.